من أكثر المفاهيم الخاطئة شيوعًا بين بعض المسلمين ويجتهد البعض حاليا من خلال فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي في الادعاء أن المسيحي "يعبد ثلاثة آلهة" بسبب عقيدة الثالوث المسيحية. هذا الادعاء، وإن كان نابعًا من بعض المسلمين بسبب الغيرة على إيمانه بالتوحيد المطلق، لكنه يعكس غالبًا سوء فهم لمضمون العقيدة المسيحية التي تُقِر الإيمان بإله واحد. وهذا الأمر لا يعكس سوء فهم فقط، بل يتعدى ذلك إلى الاستماتة من خلال تقديم كتابات وفيديوهات في محاولة إثبات أن المسيحي يعبد ثلاثة آلهة!
نؤمن نحن المسيحيون بإله واحد في ثلاثة أقانيم: الآب، والابن، والروح القدس. وهذه الأقانيم ليست ثلاث ذوات منفصلة أو ثلاثة آلهة مستقلين، بل تعيّنات داخلية أو مميزات خاصة (أقانيم) في ذات واحدة في الجوهر الإلهي الواحد. فنقول: "نعبد إلهًا واحدًا في ثلاث أقانيم أزلية.". فكل أقنوم هو نفس ذات الله كاملًا، دون انفصال أو انقسام في الذات الإلهية. هذا المفهوم لا يعني التعدد العددي للآلهة، بل هو مفهوم لاهوتي عقد للتعبير عن كمال الذات الإلهية من خلال علاقات داخلية، وليس تعددًا في الذوات.
المنهج العادل في الحوار أن يُبنى الحكم على عقائد الآخرين كما يُعبّرون هم عنها، لا كما نتخيلها نحن. فعقيدة الثالوث لا يصح أن تُفهم من خلال تصورات مشوَّهة لبعض المسلمين، ثم تُبنى عليها اتهامات جاهزة بالشرك وتعدّد الآلهة. فهناك فرق بين أن تفهم وأن تؤمن. فالمسلم غير مُطالب بالإيمان بالثالوث، فهو حرّ في معتقده، لكن إن أراد أن يتحدث عنه أو ينقده، فعليه أن يفعل ذلك بناء على اعتقاد المسيحي المؤمن به، لا كما يصوّره في ذهنه بناءً على افتراضات خاطئة.
وقد اتبع هذا المنهج عدد من كبار علماء الإسلام في تناولهم لعقيدة الثالوث المسيحية، مثل الغزالي، والرازي. فمع أنهم كتبوا ردودًا وانتقادات لما يؤمن به المسيحيون، إلا أنهم حين تحدّثوا عن الثالوث تناولوا العقيدة كما يعبّر عنها أهلها، لا كما يُساء فهمها.
أبو حامد الغزالي (450هـ-505هـ/1058م-1111م)، الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل، ص147-148
"لأنهم يعتقدون أن ذات الباري واحدة في الموضوع، ولها اعتبارات……. هذا حاصل هذا الاصطلاح، فتكون ذات الإله واحدة في الموضوع، موصوفة بكل أقنوم من هذه الأقانيم."
فخر الدين الرازي (544هـ-606هـ/1149م-1210م)، التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، ج11 ص118
"واعلم أن مذهب النصارى مجهول جدا، والذي يتحصل منه أنهم أثبتوا ذاتا موصوفة بصفات ثلاثة، إلا أنهم وإن سموها صفات فهي في الحقيقة ذوات، بدليل أنهم يجوزون عليها الحلول في عيسى وفي مريم بأنفسها، وإلا لما جوزوا عليها أن تحل في الغير وأن تفارق ذلك الغير مرة أخرى، فهم وإن كانوا يسمونها بالصفات إلا أنهم في الحقيقة يثبتون ذوات متعددة قائمة بأنفسها……….. وأما إن حملنا الثلاثة على أنهم يثبتون صفات ثلاثة ، فهذا لا يمكن إنكاره ، وكيف لا نقول ذلك وإنا نقول : هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام العالم الحي القادر المريد."
هنا الإمام الرازي، المعروف بدقته في العقائد بين علماء الإسلام، لم يُسارع إلى الحكم على عقيدة الثالوث بالشرك، إلا في حال ثبوت القول بوجود "ذوات" إلهية مستقلة، وهو يراها كذلك – رغم أن لا أحد من المسيحيين يقول بذلك. لكن الرازي يُقرّ بأنه إن فُهمت "الثلاثة" على أنها صفات داخلية في ذات إلهية واحدة، فلا يُعد ذلك شركًا. ونحن كمسيحيين نؤمن بأن الأقانيم ليست ذواتًا منفصلة، بل هي تمايزات خاصة وتعيّنات أزلية في الذات الإلهية الواحدة. بل إن الرازي نفسه يرى أن العقيدة الإسلامية أيضًا لا تنفي تعدد الصفات في ذات الله، ولا يُعد ذلك تعددًا في الألوهية، ولا كفرًا.
السؤال الجوهري الذي نطرحه نحن كمسيحيين هو: لماذا يحاول البعض التشكيك دائمًا فيما نُعلنه بوضوح عن إيماننا؟ نحن لا نُخفي معتقدنا، بل نُصرّح به علنًا منذ القرون الأولى، ونُدَرِّسه ونشرحه في كنائسنا وكتبنا اللاهوتية. فلو كنّا نعبد ثلاثة آلهة – كما يُتَّهَمنا البعض – فما الذي يمنعنا من الجهر بذلك؟ ولماذا نُصرّ على التوحيد إن كان إيماننا الحقيقي في جوهره تعددًا؟ أليس من الأولى أن نُعلن تعدد الآلهة بكل صراحة مفتخرين بذلك، ونوفر على منتقدينا عناء الاستدلال والاتهام والتأويل؟
لكن الحقيقة أننا نُعلن ونُكرر ونُعلّم أن الله واحد في جوهره، وأن ما ندعوه بالثالوث ليس ثلاث ذوات منفصلة ولا ثلاث آلهة متعددة، بل تمايز في الأقانيم داخل الوحدة الإلهية، كما يُعبّر عنها الإيمان المسيحي المستند إلى تقليد طويل عبر القرون مستندا على الإعلان الإلهي في الكتب المقدسة.